فصل: (سورة الأنفال آية 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنفال آية 24]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}
{إِذا دَعاكُمْ} وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال.
وبالدعوة: البعث والتحريض. وروى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ على باب أبىّ ابن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتى؟ قال: كنت أصلى. قال: ألم تخبر فيما أوحى إلىّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك. وفيه قولان، أحدهما: إن هذا مما اختص به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والثاني أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته {لِما يُحْيِيكُمْ} من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. ولبعضهم:
لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ ** فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ

وقبل لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} وقيل للشهادة، لقوله: {بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. وَاعْلَمُوا {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} يعنى أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده اللّه، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة اللّه ورسوله {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة.
وقيل: معناه إنّ اللّه قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمنًا وبالأمن خوفًا وبالذكر نسيانًا، وبالنسيان ذكرًا، وما أشبه ذلك مما هو جائز على اللّه تعالى.
فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرًا. وقيل معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
وقرئ: {بين المر}، بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ.

.[سورة الأنفال الآيات 25- 26]:

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
{فِتْنَةً} ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل {فِتْنَةً} عذابًا. وقوله: {لا تُصِيبَنَّ} لا يخلو من أن يكون جوابًا للأمر. أو نهيًا بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جوابًا، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بنى إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرًا فعمهم اللّه بالعذاب، وإذا كانت نهيًا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنبًا أو عقابًا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل: {واتقوا فتنة} مقولا فيها {لا تصيبنّ}، ونظيره قوله:
حَتَّي إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ ** جَاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ

أى بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورقة التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: {لتصيبنّ}، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن: نزلت في علىّ وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانًا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدى: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروى: «أن الزبير كان يساير النبي صلى اللّه عليه وسلم يومًا، إذ أقبل علىّ رضى اللّه عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف حبك لعلّى؟ فقال يا رسول اللّه، بأبى أنت وأمى، إنى أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حبا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله» فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأنّ فيه معنى النهى، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبنّ ولا يحطمنكم. فإن قلت: فما معنى من في قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ}؟ قلت: التبعيض على الوجه الأوّل، والتبيين على الثاني، لأنّ المعنى: لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس.
{إِذْ أَنْتُمْ} نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف: أي اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين {فِي الْأَرْضِ} أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش {تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} لأن الناس كانوا جميعا لهم أعداء منافين مضادّين {فَآواكُمْ} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} من الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إرادة أن تشكروا هذه النعم. وعن قتادة: كان هذا الحىّ من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلدًا، وأبينهم ضلالا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن اللّه لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكا.

.[سورة الأنفال آية 27]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه: تخوّنه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له.
ومنه قوله تعالى: {وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ} والمعنى لا تخونوا اللّه بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. وأَماناتِكُمْ فيما بينكم بأن لا تحفظوها {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. وروى أن نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاصر يهود بنى قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بنى النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحًا لهم لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أنى قد خنت اللّه ورسوله فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سوارى المسجد وقال: واللّه لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت أو يتوب اللّه علىّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيًا عليه ثم تاب اللّه عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك. فقال: لا واللّه لا أحلها حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالى. فقال صلى اللّه عليه وسلم: «يجزيك الثلث أن تتصدّق به». وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضى اللّه عنه. وقيل أَماناتِكُمْ ما ائتمنكم اللّه عليه من فرائضه وحدوده. فإن قلت: {وَتَخُونُوا} جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهى وأن يكون نصبًا بإضمار أن كقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} وقرأ مجاهد: {وتخونوا أمانتكم}، على التوحيد.

.[سورة الأنفال آية 28]:

{وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب. أو محنة من اللّه ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده.
{وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدى إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله: {الْمالُ وَالْبَنُونَ} الآية. وقيل: هي من جملة ما نزل في أبى لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.

.[سورة الأنفال آية 29]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
{فُرْقانًا} نصرًا، لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ الْفُرْقانِ} أو بيانًا وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم بتّ أفعل كذا حتى سطع الفرقان: أي طلع الفجر. أو مخرجا من الشبهات وتوفيقًا وشرحًا للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة.

.[سورة الأنفال آية 30]:

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)}
لما فتح اللّه عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة اللّه عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح اللّه له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكر إذ يمكرون بك وذلك أن قريشا- لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا، فقال أبو البختري: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأى، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم: فقال هشام بن عمرو: رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأى يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلامًا وتعطوه سيفًا صارمًا، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ- لعنه اللّه-: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيًا.
فتفرقوا على رأى أبى جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن اللّه له في الهجرة، فأمر عليًا رضى اللّه عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا عليًا فبهتوا وخيب اللّه عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل اللّه مكرهم {لِيُثْبِتُوكَ} ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعًا. وقرئ: {ليثبتوك}، بالتشديد. وقرأ النخعي: ليبيتوك، من البيات، وعن ابن عباس: ليقيدوك، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق.
{وَيَمْكُرُونَ} ويخفون المكايد له {وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ويخفى اللّه ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة {وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرًا، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.

.[سورة الأنفال الآيات 31- 34]:

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)}
{لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه. وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبرًا، حين سمع اقتصاص اللّه أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل: {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ} وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفى كونه حقًا، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابًا فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقا، فأمطر علينا حجارة. وقوله: {هُوَ الْحَقَّ} تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق. وقرأ الأعمش {هو الحق} بالرفع، على أن هو مبتدأ غير فصل.
وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال: أمطرت السماء، كقولك أنجمت وأسبلت ومطرت، كقولك: هتنت وهتلت. وقد كثر الأمطار في معنى العذاب. فإن قلت: ما فائدة قوله: {مِنَ السَّماءِ}؟ والأمطار لا تكون إلا منها. قلت: كأنه يريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع {حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} موضع السجيل، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعًا {بِعَذابٍ أَلِيمٍ} أي بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعنى أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً} ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة اللّه وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله: {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} في موضع الحال. ومعناه نفى الاستغفار عنهم: أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. وقيل: معناه وما كان اللّه معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرّهم ممن تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المستضعفين، {وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} وأى شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعنى: لاحظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء {وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ} وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه {إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} من المسلمين ليس كل مسلم أيضًا ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برا تقيًا، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم.